أحياناً لا نجد كلمات تكفي للتعبير عما في دواخلنا، هذا هو شعوري الآن وأنا أكتب عن مسلسل (أفراح القبة)، الذي أتعجب كيف يمكن لبعض من الكلمات وعدد من السطور أن تفيه حقه؟
(أفراح القبة) عمل نخبوي جماهيري في الوقت ذاته، من بطولة كل من منى زكي، إياد نصار، جمال سليمان، صبا مبارك، محمد الشرنوبي، صابرين، صبري فواز، رانيا يوسف، دينا الشربيني، سوسن بدر، سيد رجب، أحمد صلاح السعدني، كندة علوش.
المسلسل بعنوانه، مأخوذ من رواية (أفراح القبة) للأديب العالمي الراحل نجيب محفوظ، حيث تتناول أحداث الرواية، مع زيادة بعض الشخصيات التي لم تكن بالأساس موجودة في رواية نجيب محفوظ، لكن وجودها كان مهماً لإسناد المسلسل وإكماله للحلقة الـ30.
منذ حلقاته الأولى تأكدت أن (أفراح القبة) يغرد في سرب مختلف، لا يمكن مقارنته بأي عمل تلفزيوني آخر قُدم هذا العام، أو حتى الأعوام الماضية، فأحيانا تشعر بأنك تشاهد فيلماً سينمائياً وأحياناً يتهيأ لك أنك تجلس على مقعد في مسرح عظيم وتُشاهد مسرحية واقعية تشبه حياتنا اليومية، وأحياناً أخرى تشعر بمزيج من المسرح والسينما والتلفزيون لتجد نفسك عاجزاً عن تصنيف عبقرية هذا العمل الذي تشاهده!
يعود الفضل في النجاح الذي حققه (أفراح القبة)، لمخرج العمل الكبير بقيمته وفنه الأستاذ محمد ياسين، الذي لا يستحق فقط لقب الأستاذ، بل أيضاً المُعلم، والملهم، والقائد الذي يستطيع أن يوظف كل فنان في الدور المناسب له، ويُخرج منه طاقة تمثيلية رهيبة، للدرجة التي تجعل أي ممثل شارك في عمل لمحمد ياسين، قدم فيه أفضل أدواره ما يجعله يستصعب متابعة المشوار والتحدي.
يكفي أن هذا المخرج العظيم، أراد أن يُرسخ فكرة ضرورة الإشادة بالأبطال العاملين وراء الكاميرا، وقرر أن يضع اسماءهم على شارة البداية، ويضع أسماء الممثلين على شارة النهاية كونهم لا يحتاجون للشهرة والجميع يعلم اسماءهم جيداً، بينما هؤلاء الأبطال من مصورين، مهندسي الديكور، ومهندسي الصوت، ومديرين الموقع، ومنفذين الأزياء وغيرهم غالباً لا يعلم عنهم أحد، ودائماً ما ينسب نجاح العمل للممثلين ويتم إهدار حق هؤلاء من هم وراء الكاميرا دائماً.
لا اعتقد أن نجيب محفوظ كان سيعترض على إخراج ياسين لروايته، خصوصاً وأن هذا الأخير لم ينتقص من الرواية، ولم يُشوهها، وبرع في بعض المشاهد في إيصال نفس الرسالة التي كان يسعى محفوظ لإيصالها من خلال روياته، وبالتحديد عندما كان يروي كل بطل من أبطال العمل الأحداث من وجهة نظره، وهو ما نفذه ياسين بطريقة مبهرة، لم تجعل المشاهد يمل من تكرار المشاهد، بل يتحمس لرؤيتها مرة ثانية من وجهة نظر بطل آخر، وهذا هو الفن بحد ذاته.
اعتبرها واحدة من أهم حلقات العمل، تلك التي يظهر فيها النجم الأردني إياد نصار وهو يبحث عن غرفة فارغة بين غرف المسرح، بعدما امتلأت جميع الغرف، فور وفاة أحد الممثلين، وقدوم ابنته الحامل ليُفاجئها المخاض وتلد في غرفة ثانية، بينما يتواجد والدها الميت في غرفته، ويتواجد المعزيين في غرفة أخرى، فيما يتوافد المهنئون بالولادة ويحتلون غرفة غير بقية الغرف، ليجد إياد أو (طارق رمضان) نفسه حائراً وحيداً بدون مأوى، ولا يشعر به أحد، في أشد وقت هو يحتاج فيه للإختلاء بنفسه بعيداً عن كل هموم الحياة التي سيطرت عليه.
هذا المشهد لخص حال الدنيا التي نعيشها ببساطة السهل الممتنع، ففي الوقت الذي يبكي فيه أهل الميت على فراق من أحبوه، نجد الآخرين يحتفلون بولادة طفل يفتح عينيه على الدنيا بأحزانها وأفراحها التي لخصها مشهد ولادته، وفي الوقت ذاته لا يجد (طارق رمضان) وقتاً ولا مكاناً يسمح له بالتفكير في أخطائه التي وبمجرد ارتكابه لها لا يمكن له العودة عنها، فتسير الحياة في طريقها دون قدرته على مراجعة حساباته.
ليس هذا المشهد فقط هو الأهم في (أفراح القبة)، بل أغلب مشاهد الحلقات كانت على المستوى ذاته من الإبداع، بالأخص مشهد منى زكي أو (تحية عبده) وهي على فراش المرض، وتطلب لقاء حبيبها طارق رمضان للمرة الأخيرة، فيحاول أن يقويها بنظرات حبه لها، ثم يتذكر معها الأغنية التي كانا يغنيانها في عز اشتعال قصة حبهما، وقبل تأزم الموقف بينهما، تبكي تحية بصمت يُبين مدى ألمها، ويشهد على مدى براعة منى زكي وقدراتها التمثيلية.
في الحلقة الأخيرة من المسلسل، يتضح أن جميع الأحداث ما هي إلا مسرحية كانت بطلتها (تحية عبده)، وبقية شخصيات العمل، الذين يظهرون على خشبة المسرح ويُحيي الجمهور كل منهما، في مشهد يقترب إلى الواقعية وبحد كبير، خصوصاً وأن كل بطل من أبطال المسلسل يستحق تحية من مشاهدي العمل، فتصفيق الجمهور للأبطال على المسرح، يستحق أن يتحول لتصفيق حقيقي من كل مشاهد في منزله لفريق عمل مسلسل (أفراح القبة).
لم نشعر بالانزعاج من اكتشاف أن أحداث المسلسل ما هي إلا مسرحية، لأن المخرج استطاع أن يُوصل لنا بإتقان ملامح هذه الفكرة من خلال الحلقات، ولأننا نعلم أن الحياة كلها ما هي إلا مسرحية نحن أبطالها.
أبطال المسلسل يستحقون التهنئة مرتين، الأولى لأنهم أجادوا الاختيار وشاركوا في عمل يحترم عقول الجمهور في زمن الاستسهال و”الهلس”، والثانية لأنهم أبدعوا وتعمقوا داخل أدوارهم وكأنهم جلسوا إلى جانب نجيب محفوظ ولقنهم أسرار شخصياتهم.
لا نستطيع الحكم عن من تفوق على الآخر في هذا العمل تحديداً، خصوصاً وأن المخرج محمد ياسين يختار بدقة وإتقان الممثلين لكل دور في النص بين يديه. أحياناً نشعر أن إياد نصار هو فعلاً طارق رمضان، ولم يكن لأي فنان آخر أن يقوم بدوره، وأحياناً نشعر أنه تفوق على زملائه تمثيلاً، لنجد بقيتهم يبدعون أيضاً وكأنهم في حلبة مصارعة لا تنتهي لأن الجميع فيها قوي وجبار.
صابرين قدمت أفضل أدوارها بعد دورها في مسلسل (أم كلثوم)، وبكاؤها بحرقة على ابنها في مشهد الحلقة الأخيرة، بالتأكيد لم يكن تمثيلاً عادياً!
منى زكي استعادت أمجادها وقدمت دور عُمرها، وجعلتنا نفتخر بها نجمة مصرية عربية ترفع الرأس.
صبا مبارك، رانيا يوسف، محمد الشرنوبي، سوسن بدر، صبري فواز، جمال سليمان، سيد رجب، أحمد صلاح السعدني، كندة علوش، سامي المغاوري، قدموا أفضل ما لديهم وأضافوا للشخصيات التي جسدوها بإبداعهم.
(أفراح القبة) مسلسل أبدع كل من شارك به، سواء فريق العمل وراء الكاميرا أو الأبطال، وهو عمل يستحق أن تتحاكى عنه الأجيال القادمة، لأنه مرآة حقيقية لما نعيشه في واقعنا الذي يُشبه خشبة المسرح!
دينا حسين – القاهرة