نضال الأحمدية
انصرفنا في نهاية السهرة.. أذكر أنني نلتُ من الغزل ما يكفيني دهراً لإشباع غروري الأنثوي.. لكن قلبي وعقلي كانا مع الحبيب الذي لا يزال يلتزم قريته ويتجنب لقياي..
لم أكن أعرف السبب..
وفي كل مرّة، ضاقت الدنيا ذرعاً بي بسبب إهماله وعدم حصولي على إجابة عما حدث لحبنا الكبير.. كنت أتناول حبوب «الموجادون» وأروح في غيبوبة نوم ليومين، أستفيق بعدهما وأشكر الله أني لم أضعف، وأني لم أتصل به أو أتوسله كما تفعل العاشقات المهزومات.
في إحدى الليالي، بعد مرور أسبوعين من الفراق، صار دمي يغلي.. اتصلتُ بأغلى صديقاتي إلى شقتها، اطمأنيتُ عليها.. كنتُ في الحقيقة، أرغب بأن تدعوني لأفضفض ما في قلبي.. كنت أشتهي «النق»، لكنها لم تفعل وأشعرتني على الهاتف أنها منشغلة.. وقدّرت انشغالها كيف يكون عادة.. لا بدّ أن رجلاً يرافقها في الشّقة التي كانت أعطتني مفتاحها.. وكانت من قبل طلبت منّي بلهفةٍ أن أعتبرها شقتي.. لكن لم يكن ممكناً أن أذهب إليها دون اتصال. مسبق لعلمي بسلوكها الشخصي الذي ما عاد يعنيني طالما أن كل محاولاتي في إعلادتها إلى صوايها كانت قد فشلت.
ولأنها لم ترحّب بي، ركبت سيارتي وذهبت أزور أمّي في القرية.. جلسنا تحت شجرة التين أمام بوابة البيت. كانت تجهّز نفسها وإخوتي للرحيل من لبنان نهائياً، وكانت لم تقطع الأمل بعد، من أن ألحقَ بها وبالأسرة إلى بغداد.. كانت تعيد نفس موال إقناعي بالسفر معها كأخوتي هرباً من الحرب الطائفية.. وكنتُ وهي تحدثني شبه تائهة أفرك رأسي وكأني أرى شيئاً غريباً..  وكانت النار تأكل جسدي بل تحرق روحي.
كانت أمي تحكي وقلبي يحترق وعيناي مثل رأس سيجارة بين أصابع «حشاش».. لاحظتْ حالتي، فقالت: «أنتِ تعانين من حرارةٍ مرتفعة.. دعيني أتلمّس جبينَكِ يا بنتي»..
(كانت أمي تقيس حرارتي، فتضع خدّها على خدّي.. أداة قياس الحرارة كان خدُها).. وما أن فعلت هذهِ المرة، حتى انهمرتُ بكاءً.. ظل خدُها ملاصقاً لخدّي، فَهَمَستْ لي: «وحياة غربة بيّك، أوعا ترجعيلو هيدا الزلمي.. يا بنتي هيدا لا منّا ولا فينا وفوق هيك عميعذبك» ولا بيشبهنا.. وإن تزوّجته، سأغضب عليكِ كل العمر ووالدك لن يسامحك..
(وتابعت) لقد قرأتِ رسائل والدك أليس كذلك؟! وإن كنت تحبين والدكِ، إعملي بنصيحته..
لا تتزوجي يا ابنتي من شاب يختلف معكِ في كل شيء.. في اعتقادتك، في لباسك، في لوعةِ روحك في تطلعاتك ورؤاكِ «خلاكِ يا بنتي إنتِ مش إنتِ»!
قبّلتُ والدتي، وفررتُ من خدها ومن فيء شجرة التين أبحث عن حقيقة توجسات كانت تداهمني مثل نار تحرق قلبي.. قادتني سيارتي بسرعةٍ جنونيّةٍ إلى شقّة صديقتي، وحين وصلت شارع (الحمرا) تأخّرتُ أكثر من عشر دقائق وأنا أسأل عن المبنى الذي تقع فيه الشقة..
كانت الزيارة الأولى، الكهرباء مقطوعة، وشقّتها في الطابق السادس.. على الأدراج قفزت (دائماً افتخرت أنني رشيقة في القفز إلى الأعلى، لكني لم أرغب يوماً بتوظيف هذه الموهبة على أدراجٍ باتجاهِ وكرٍ بيروتي)..
أمام باب الشقة..  ترددتُ في إدخال المفتاح في باب ليس بابي  وترددت في الطرق عليه.. لكن ترددي لم يتأخّر ثوانٍ، وجدتُ نفسي أفتح على طريقة اللصوص..
انفتح الباب على شمعة تتوسط الممر يواجهها باب خشبي هزيل مقفل، وعن يساري باب مفتوح يؤدّي إلى مطبخ صغير.. وضعتُ يدي على الحائط وسمعت أصواتاً وتأوهات.. ورغم أني لم أحدّد هويّة الأصوات.. ورغم علمي بأن صديقتي لا تعيب على نفسها أن تأتيَ بأي رجلٍ إلى بيتها.. وبدل أن أغادر وجدت نفسي مدفوعة بكل شراسة الدنيا لأن أفتح باب غرفةِ نومها.. إنه إحساس العاشقة.
وقعتُ في فخ المشهد!
وقعتُ ولم أفكّ رقبتي..
لكن الحتمي أن قلبي تفتت.. وهما تجمّدا في مكانهما، لم يتحركا حتى ليستعينا بالشرشف ويغطّيا عريهما..
هي، كانت تنظر إليّ مثل قطةٍ مرتعبة، شفتاها الرقيقتان كانتا مفتوحتين على لا احتمال، ولا كلام..
هو، كان يشيحُ برأسه إلى جهة الحائط المعاكس لناظري.. لم أكن قادرة على قتلهما.. ظللتُ واقفة طويلاً، لا أستطيع تقدير الوقت الذي تجمدت فيه ساقاي وأنا قبالتهما وهما حبيبي وأهم صديقة لي على وجه الدنيا آنذاك.
هي، كانت صديقتي التي جعلتُ منها بطلة على مدار احتضاني لها وحمايتها من نفسها وذلها.. وهو، كان حبيبي الذي طالما عيّرني بصداقتي لها..
هي، كانت الضحية الاجتماعية حسب تقديري..
وأصبحتُ الآن أنا الضحية (ضحيتها)!
الضحية يتحول إلى جلاد، ولا يعنيه من قد يكون ضحيته..
الجلاد لا يرى ولا يسمع ولا يفقه.. لأنهم سرقوا عينيه وأذنيه وقدرته على التمييز.. قررت أن لا أصبح جلادة.. ليس لأن الجَلد عمل غير إنساني، بل لانه لا يناسبني أن أكون ضحية..
خلوتُ المكان، أقفلتُ البابَ ورائي.. نزلتُ السلالم.. سمعت صوتَه يناديني.. أكملتُ النزول.. لم أكن أكرج أو أقفز..(حين ننزل نشعر أننا في حالة هبوط.. نصبح ويصبح الهبوط أكثر بطئاً، لشعورنا أنه فعلٌ جبان).. لا أذكر إن كان كرر النداء.. ركبتُ سيارتي.. لم أبكِ.. ولم أفكر بالحبوب المخدرة.. كنت شبه نائمة، لا حاجة لي إلى غيبوبة عن طريق المهدئات ولم أكن قادرة على تحديد وجهةِ هربي.. وجه واحدٌ لمع في قلبي.. وجه مدام شمالي «الريسة» في الـ YWCA -المرأة التي كانت دائماً تقول لي بحذر: أنتِ بنت غريبة..أنتِ غامضة.. وكأنكِ لستِ من هذا العالم.. لا علاقة صداقة لكِ مع كل بنات النزل».. وكانت تقول لي: «هم لا يكرهونك يا ابنتي، لكنهم أيضاً لا يحبونك.. يعتقدونكِ تتكبرين عليهم لأنكِ صحافية ومذيعة ناجحة».
وكنتُ لا أجيبها، فقط أبتسم، أُمسك كفيها وأقول: سامحيني، هذه أنا، ولا أستطيع أن أنضم إلى عالمهن.. كانت المرأة تهز بكتفها وتقول: أليس لديك رجلٌ في حياتك؟! وكنت أكذب عليها..
(أحببت أسراري دائماً وأردتها ملكية خاصة جداً) وكنت أجيب مدام شمالي: «لا، بعد بكير.. ومشغولة بالدرس والشغل والحرب.. والقضية»!
يتبع
نضال الاحمدية وابنها
مع ابني الوحيد روني بلا أقنعة
Copy URL to clipboard


























شارك الموضوع

Copy URL to clipboard

ابلغ عن خطأ

لقد تم إرسال رسالتك بنجاح

نسخ إلى الحافظة

أدخل رقم الهاتف أو بريدك الإلكتروني للإطلاع على آخر الأخبار